كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكره على ثنية الوداع وضرب عبد الله بن أبي- رأس النفاق- عسكره على حدة، أسفل منه، قال ابن إسحاق: (وكانوا فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين).. ولكن الروايات الأخرى تقول: إن الذين تخلفوا فعلًا دون المائة.. فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب.
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرًا، فجعل يتخلف عنه الرجل، فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان، فيقول: «دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه» حتى قيل: يا رسول الله، قد تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره، فقال: «دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه» وتلوّم أبو ذر على بعيره (أي انتظر عليه)، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيًا. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن أبا ذر» فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو ذر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده».
ثم إن أبا خيثمة رجع- بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أيامًا- إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه (أي في حديقته) قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت له فيه ماء. وهيأت له فيه طعامًا. فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضحَّ (أي الشمس) والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم؟! ما هذا بالنصف! ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فهيئا لي زادًا. ففعلتا. ثم قدم ناضحة فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك.. وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطلب يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لي ذنبًا فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل.
حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتبوك قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن أبا خيثمة» فقالوا: يا رسول الله، هو والله أبو خيثمة فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولى لك يا أبا خيثمة!» ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم- الخبر. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا، ودعا له بالخير.
قال ابن إسحاق: وقد كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف، ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له: مُخشن بن حُمير (قال ابن هشام: ويقال: مخشى) يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر (يعنون الروم) كقتال العرب بعضهم بعضًا؟ والله لكأنا بكم غدًا مقرنين في الحبال.. إرجافًا وترهيبًا للمؤمنين.. فقال مخشن بن حمير: والله لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وأنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني- لعمار بن ياسر: «أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا فإن أنكروا فقل: بلى قلتم كذا وكذا» فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على ناقته، فجعل يقول وهو آخذ بحقبها (وهو الحبل يشد على بطن البعير) يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب. فأنزل الله عز وجل: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تسهزئون} وقال مخشن بن حمير: يا رسول الله، قعد بي اسمي واسم أبي! وكان الذي عفي عنه في هذه الآية مخشن بن حمير. فتسمى عبد الرحمن. وسأل الله تعالى أن يقتله شهيدًا لا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة، فلم يوجد له أثر..
قال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال: لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك- بعدما أقام بها بضع عشرة ليلة لم يلق فيها حربًا- هَمَّ جماعة من المنافقين بالفتك به، وأن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق، فأخبر بخبرهم، فأمر الناس بالمسير من الوادي، وصعد هو العقبة، وسلكها معه أولئك النفر وقد تلثموا، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أن يمشيا معه.
عمار آخذ بزمام الناقة، وحذيفة يسوقها؛ فبينما هم يسيرون إذ سمعوا بالقوم قد غشوهم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبصر حذيفة غضبه، فرجع إليهم ومعه محجن، فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه، فلما رأوا حذيفة ظنوا أن قد ظهر على ما أضمروه من الأمر العظيم؛ فأسرعوا حتى خالطوا الناس؛ وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم فأسرعا حتى قطعوا العقبة، ووقفوا ينتظرون الناس. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة: «هل عرفت هؤلاء القوم؟» قال: ما عرفت إلا رواحلهم في ظلمة الليل حين غشيتهم. ثم قال: «علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب؟» قالا: لا. فأخبرهما بما كانوا تمالأوا عليه، وسماهم لهما، واستكتمهما ذلك، فقال: يا رسول الله، أفلا تأمر بقتلهم؟ فقال: «أكره أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه».
قال ابن كثير في البداية والنهاية:
وقد ذكر ابن إسحاق هذه القصة إلا أنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعلم بأسمائهم حذيفة ابن اليمان وحده. وهذا هو الأشبه، والله أعلم..
فأما العسرة التي لقيها المسلمون في الغزوة فقد وردت بعض الروايات بشواهد منها..
قال ابن كثير في التفسير:
قال مجاهد وغير واحد نزلت هذه الآية: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم}. في غزوة تبوك. وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر، في سنة مجدبة، وحر شديد، وعسر من الزاد والماء..
قال قتادة: خرجوا إلى الشام على تبوك في لهبان الحر، على ما يعلم الله من الجهد، فأصابهم فيها جهد شديد حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها، ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها، فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوتهم.
وروى ابن جرير- بإسناده- إلى عبد الله بن عباس: أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة، فقال عمر بن الخطاب: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، فنزلنا منزلًا فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، وحتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده.
وقال ابن جرير في قوله: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة}- أي من النفقة والظهر والزاد والماء- {من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم}- أي عن الحق، ويشك في دين الرسول صلى الله عليه وسلم ويرتاب للذين نالهم من المشقة والشدة في سفرهم وغزوهم- {ثم تاب عليهم} يقول: ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم والرجوع إلى الثبات على دينه {إنه بهم رؤوف رحيم}.
ولعل هذا الاستعراض أن يصور لنا اليوم كيف كانت {العسرة} كما ينقل لنا لمحة من الجو الذي عاشه المجتمع المسلم في تلك الفترة؛ يتجلى فيها تفاوت المقامات الإيمانية؛ من اليقين الجاد عند طائفة. إلى الزلزلة والأرجحة تحت مطارق العسرة عند طائفة. إلى القعود والتخلف- بغير ريبة- عند طائفة. إلى النفاق الناعم عند طائفة. إلى النفاق الفاجر عند طائفة. إلى النفاق المتآمر عند طائفة.. مما يشي أولًا بالحالة العامة للتركيب العضوي للمجتمع في هذه الفترة؛ ويشي ثانيًا بمشقة الغزوة- في مواجهة الروم ومع العسرة- هذه المشقة الممحصة. الممتحنة الكاشفة؛ والتي لعل الله سبحانه قد قدرها من أجل التمحيص والكشف والتمييز.
هذه هي العسرة التي تخلف فيها المتخلفون وكثرتهم من المنافقين الذين سلف بيان أمرهم. ومن المؤمنين الذين لم يقعدوا شكًا ولا نفاقًا، إنما قعدوا كسلًا واسترواحًا للظلال في المدينة. وهؤلاء جماعتان؛ جماعة قضي في أمرهم من قبل، وهم الذين خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا، واعترفوا بذنوبهم، وجماعة أخرى: {مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم} وهم هؤلاء الثلاثة الذين خلفوا، أي تركوا بلا حكم. وأرجئوا حتى يحكم الله فيهم. وهنا تفصيل أمرهم بعد الإرجاء في الحكم والإرجاء في السياق..
وقبل أن نقول نحن عن هؤلاء شيئًا في تفسير النص المصور لحالهم؛ وقبل أن نعرض الصورة الفنية المعجزه التي رسمها التعبير لهم ولحالهم، ندع أحدهم يتحدث عما كان.. هو كعب بن مالك- رضي الله عنه-: أخرج أحمد والبخاري ومسلم من طريق الزهري قال أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك- وكان قائد كعب من بنيه حين عمي- قال: سمعت كعب ابن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحد تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد.
ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله الله عليه وسلم في غزوة تبوك، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزة؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة إلا ورّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفاوز، واستقبل عدوًا كثيرًا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ- يريد الديوان-.
قال كعب رضي الله عنه: فقلّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل. وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وأنا إليها أصغو، فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفقت أغدوا لكي أتجهز معهم فأرجع ولا أقضي شيئًا، فأقول لنفسي: أنا قادر على ذلك إن أردت. فلم يزل ذلك يتهادى بي حتى استمر بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديًا والمسلمون معه ولم أقض في جهازي شيئًا، فلم يزل يتهادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم، وليت أني فعلت؛ فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلًا مغموصًا عليه في النفاق، أو رجلًا من عذر الله. ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب بن مالك»؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل: بئسما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عنه إلا خيرًا فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه قافلًا من تبوك حضرني بثي، فطفقت أتذكر الكذب، وأقول بماذا أخرج من سخطه غدًا؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي.
فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادمًا زاح عني الباطل حتى عرفت أني لم انج منه بشيء أبدًا، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادمًا، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له. وكانوا بضعًا وثمانين رجلًا؛ فقبل رسول الله عليه وسلم منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله؛ حتى جئت؛ فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال لي: «تعال» فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: «ما خلفك؟ ألم تكن قد اشتريت ظهرك؟» فقلت يا رسول الله، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أُعطيت جدلًا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني به ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك بحديث صدق تجد علي فيه، وإني لأرجو فيه عقبى من الله. والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك! فقال صلى الله عليه وسلم: «أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك» فقمت. وبادرني رجال من بني سلمة وأتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبًا قبل هذا، لقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون، فلقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم.